فصل: لطائف ونفائس للتستري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سؤال: فإنْ قيل: فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]؟

فعنه جوابان:
أحدهما: أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح.
والثاني: أن الأحوال تختلف، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي بعض وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قيل كان في طلب في زيادة اليقين، فأراد أن يقرن حق اليقين بما كان له حاصلًا من عين اليقين.
وقيل استجلب خطابه بهذه المقالة إلى قوله سبحانه: {أو لم تؤمن قال بلى} كنت أومن ولكني اشتقتُ إلى قولك لي: أَوَلم تؤمن، فإن بقولك لي: {أو لم تؤمن} تطمينًا لقلبي. والمحبُّ أبدًا يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه.
وقيل: إنه طلب رؤية الحق سبحانه ولكن بالرمز والإشارة فَمُنِعَ منها بالإشارة بقوله: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وإن موسى عليه السلام لما سأل الرؤية جهرًا وقال: {رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فَرُدَّ بالجهر صريحًا وقيل له {لَن تَرَانِى}.
وقيل إنما طلب حياة قلبه فأُشير إليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور، وفي الطيور الأربعة طاووس، والإشارة إلى ذبحه تعني زينة الدنيا، وزهرتها، والغراب لحِرصِه، والديك لمشيته، والبط لطلبه لرزقه.
ولما قال إبراهيم عليه السلام {أرِنِى كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى}؟ قيل له: وأرني كيف تذبح الحي؟ يعني إسماعيل، مطالبة بمطالبة. فلمَّا وَفَّى بما طولب به وفَّى الحق سبحانه بحكم ما طلب.
وقيل كان تحت ميعاد من الحق سبحانه أن يتخذه خليلًا، وأمارة ذلك إحياء الموتى على يده، فجرى ما جرى.
ووصل بين قصة الخليل صلى الله عليه وسلم فيما أراه وأظهره على يده من إحياء الموتى وبين عُزَير إذ أراه في نفسه؛ لأن الخليل يَرْجُح على عزير في السؤال وفي الحال، فإن إبراهيم عليه السلام لم يَرُدَّ عليه في شيء ولكنه تَلَطَّف في السؤال، وعُزَير كلمه كلام من يُشْبِه قولُه قولَ المسْتَبْعِد، فأراد الحق أن يظهر له أقوى معجزة وأتمَّ دلالة حيث أظهر إحياءَ الموتى على يده حين التبس على نمرود ما قال إبراهيم عليه السلام ربي الذي يحيي ويميت، فقال: {أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ} أراد إبراهيم أن يُرِيَه الله سبحانه إحياء الموتى ليعلم أنه ليس هو الذي ادَّعى.
وفي هاتين الآيتين رخصة لمن طلب زيادةَ اليقين من الله سبحانه وتعالى في حال النظر.
ويقال إن إبراهيم أراد إحياء القلب بنور الوصلة بحكم التمام، فقيل له: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} يعني أما تذكر حال طلبك إيانا حين كنت تقول لكل شيء رأيته {هَذَا رَبِّى} [الأنعام: 77] فلم تَدْرِ كيف بَلَّغْنَاكَ إلى هذه الغاية، فكذلك يوصلك إلى ما سَمَتْ إليه هِمَّتُك.
والإشارة من هذا أن حياة القلب لا تكون إلا بذبح هذه الأشياء يعني النفس؛ فَمَنْ لم يذبح نفسه بالمجاهدات لم يَحْيَى قلبُه بالله.
وفيه إشارة أيضًا وهو أنه قال قَطِّعْ بيدك هذه الطيور، وفَرِّقْ أجزاءها، ثم ادْعُهُنَّ يأتينك سعيًا، فما كان مذبوحًا بيد صاحب الخلة، مقطعًا مُفَرَّقًا بيده- فإذا ناداه استجاب له كل جزء مُفَرَّق.. كذلك الذي فَرَّقه الحق وشتَّته فإذا ناداه استجاب:
ولو أنَّ فوقي تُرْبةً وَدَعَوْتَنِي ** لأجَبْتُ صَوْتَكَ والعِظَامُ رُفَاتُ

اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى}.
قال ابن عطية: قال الجمهور: إن إبراهيم لم يكن شاكا قط في إحياء الله الموتى، وإنما طلب المعاينة، وقال آخرون: إنه شك في قدرة الله تعالى في إحياء الموتى.
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه.
ابن عرفة: هذا كلام لا يليق بابن عباس.
وحمله على ظاهره يلزم عليه الكفر فلابد من تأويله وهو أن الشك في كيفية وجود الشيء لا يلزم منه الشك في وجود ذلك الشيء، كما أنا لا نشك في موت عثمان رضي الله عنه مقتولا ونشك في كيفية ذلك حسبما اختلف فيه الرواة والنقلة.
قال: ومن هنا يستدل على القول بعدم تواتر القراءات السبعة غير ملزوم للقول بعدم تواتر القرآن جملة.
قال ابن عرفة: فأراد ابراهيم عليه السلام الانتقال من العلم النظري إلى العلم الضروري لأن النظري تعرض له الشكوك والضروري لا تعرض له الشكوك ولذلك يقول الفخر ابن الخطيب: في كلامه هذا تشكيك في الضروريات فلا يستحق جوابا.
قيل له علم النبي ضروري لا نظري؟
فقال: علمه بنفس الإحياء ضروري وبكيفيته نظري، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» على سبيل الفرض والتقدير في حق إبراهيم، وعلى جهة التواضع منه عليه الصلاة والسلام، أي لو فرض وقوع الشك من إبراهيم عليه السلام لكنا نحن أحق بذلك منه.
قلت: تأول عياض في الشفاء هذه الآية بستة أوجه.
أحدها: ما تقدم أنه طلب زيادة اليقين لأن العلوم تتفاوت.
الثاني: علم وقوعه وأراد مشاهدته وكيفيته.
الثالث: المراد اختبار منزلته عند الله تعالى وأن يعلم إجابة دعوته، والمراد: أو لم تؤمن بمنزلتك واصطفائي لك.
الرابع: لما احتج على الكفار بأن الله يحيي ويميت طلبه من ربه ليصحح احتجاجه به عيانا.
الخامس: أنّه سؤال على طريق الأدب أي أقدرني على إحياء الموتى.
والسادس: أنه آمن من نفسه الشّك ولم يشك لكن ليجاب فيزداد قربة.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» نفي لأن يكون من إبراهيم شك أي نحن موقنون بالبعث وإحياء الموتى، فلو شك إبراهيم لكنا أولى بالشك منه {أو} على طريق الأدب أو المراد أمته {الذين} يجوز عليهم الشك أو هو تواضع، فأما قول الله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} فقيل: معناه قل يا محمد للشاك: إن كنت في شك، كقوله تعالى: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} و{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} وقيل: المخاطب غيره وقيل: إنّه تقرير كقوله: {ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} وقد علم أنّه لم يقل.
وقيل: إن كنت في شك فأسأل تزدد علما إلى علمك، وقيل: إن كنت شاكا فيما شرّفناك به فاسألهم عن صفتك في الكتاب؟ وقيل: إن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا إليك.
قال القاضي عياض: واحذر أن يخطر ببالك ما نقله بعضهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أو غيره من إثبات شك النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه وأنه من البشر فمثل هذا لا يجوز جملة بل قال ابن عباس: لم يشك عليه الصلاة والسلام.
وانظر ما قيل على هذا الحديث في كتاب الإيمان في دفتر الحديث، وفي أسئلة السكوني.
قوله تعالى: {قَالَ بلى ولكن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.
دليل على أن العقل في القلب.
قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}.
قوله تعالى: {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا}.
أي من الطير لأنهم جعلوه حالا من جزء فيكون نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال.
قال ابن عرفة: ويحتمل هذا أن يكون على كل جبل من الجبال فيعود الضمير على الجبال المفهومة من كل جبل.
قيل لابن عرفة: هلا بين له ذلك بإعدامهن جملة ثم إيجادهن عن عدم؟
فقال: إيجادهن لايلزم منه إعادتهن بأعيانهن لأنه يشاهد كل قوم أمثالهن: وقد يظن أن الموجود غير هذا مماثل لهن فهذا أغرب، وهو رؤيته أجْزَاءهُنّ المفترقة حين تجتمع وتعود كما كانت أول مرة قالوا: ولما اجتمعت أتت إليه التصق كل جسد مع رأسه.
قال ابن راشد في اختصار ابن الخطيب: في الآية دليل على عدم اشتراط البنية خلافا للمعتزلة.
فقال ابن عرفة: هذا بناء فيه على أن البنية هي الشكل الخاص وليس كذلك مطلقا بل البنية المشترطة في الرؤية هي الشكل الخاص والبنية المشترطة في الحياة هي البلة والرطوبة المزاجية.
نص عليه القاضي والمقترح وغيرهما لأنا نجد الحيوانات على أشكال متنوعة ولو كانت الشكل الخاص لكانت على شكل واحد.
قوله تعالى: {يَأْتِينَكَ سَعْيًا}.
دليل على أنّهن أتينه يمشين خلافا لمن قال أتينه يطرن.
قوله تعالى: {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
الحكمة مشروطة بالإتقان وهو سأل عن كيفية الإتقان فأخبره أنّه إذا علم كيفية الإتقان فلا يسأل عما وراء ذلك، فَإنّ اللهَ عَزِيز حَكِيم لا يمانع ولا يعاند في فعله فإذا تدبّر الإنسان في ملكوت الله وقدرته على الأشياء وخلقه لها، فلا يتدبّر فيها وراء ذلك لئلا يجر به تدبيره إلى الكفر وفساد العقيدة كما قال تعالى: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجع البصر كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}. اهـ.

.لطائف ونفائس للتستري:

سئل رحمه الله عن قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [260] أفكان شاكًا في إيمانه حتى سأل ربه أن يريه آية ومعجزة ليصح معها إيمانه؟ فقال سهل: لم يكن سؤاله ذلك عن شك، وإنما كان طالبًا زيادة يقين إلى إيمان كان معه، فسأل كشف غطاء العيان بعيني رأسه ليزداد بنور اليقين يقينًا في قدرة الله، وتمكينًا في خلقه، ألا تراه كيف قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى} [260] فلو كان شاكًا لم يجب ببلى، ولو علم الله منه الشك وهو أخبر ببلى وستر شكه لكشف الله تعالى ذلك، إذ كان مثله مما لا يخفى عليه، فصح أن طلب طمأنينته كان على معنى طلب الزيادة في يقينه. فقيل: إن أصحاب المائدة طلبوا الطمأنينة بإنزال المائدة، وكان ذلك شكًا، فكيف الوجه فيه؟ فقال: إن إبراهيم عليه السلام أخبر أنه مؤمن، وإنما سأل الطمأنينة بعد الإيمان زيادة، وأصحاب المائدة أخبروا أنهم يؤمنون بعد أن تطمئن قلوبهم، كما قال: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113] فأخبروه أن علمهم بصدقة بعد طمأنينتهم إلى معاينتهم المائدة يكون ابتداء إيمان لهم. وقال أبو بكر: وسمعته مرة أخرى يقول: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [260] أي لست آمنُ أن يعارضني عدو لك.
قلنا: فقوله: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [260] أي خلتي، هذا لما أعلمه أنك تحيي وتميت.
وسئل سهل: إذا بلغ العبد إلى كفاح العيان ما علامته في البيان؟ فقال: يغلب بطرد الشيطان، وهو أن النفس في معاينة الهوان، ولا سبيل إليه للنفس والشيطان بعزلهما عن الشيطان إلاَّ بحفظ الرحمن. وقال: من الوافر:
كفاياتُ الكِفاح بِحُسْنِ ظنِّي ** كنسجِ العنكبوتِ بباب غارِ

وحسنُ الظَّنِّ جاوزَ كُلَّ حجبٍ ** وحُسْنُ الظَّنِّ جاوز نُورَ نار

علاماتُ الْمُقَرَّبِ واضحاتٌ ** بعيدٌ أمْ قريبٌ ليلُ سارِ

فمنْ كانَ الإِله لهُ عِيانًا ** فلا نومَ القرارِ إلى النهارِ

تقاضاه الإله لَهم ثلاثًا ** فهل من سائلٍ من لطف بارِ

متى نَجس الولوغ ببحر ود ** فدع شقي النباح بباب داري

ألا يا نفس والشيطان أخسوا ** كبطلان الوساوس والغمارِ

قوله: كفايات الكفاح بحسن ظني كأنه أشار إلى قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} [فصلت: 53] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى يا رب» وكذلك لما أنزلت {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [التين: 8] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى يا رب» ومن طريق فهمهم القرآن: أوَ لم يَكْفِ بِرَبِّكَ يا محمد بنصرتك في الدنيا على أعدائك بالقتل والهزيمة، وفي العقبى بالمقام المحمود والشفاعة، وفي الجنة باللقاء والزيارة، وقوله: كنسج العنكبوت بباب غار وذلك أنَّ غار العارفين هو السر، واطلاع رب العالمين إذا بلغوا إلى مقام الكفاح، وهو عيان العيان بعد البيان، فليس بينهم وبين الله تعالى إلاَّ حجاب العبودية بنظره إلى صفات الربوبية والهوية والإلهية والصمدية إلى السرمدية بلا منع ولا حجاب، مثل من طريق الأمثال كنسيج العنكبوت حول قلبه، وسره فؤاده بلطف الربوبية وكمال الشفقة بلا حجاب بينه وبين الله تعالى كنسج العنكبوت بباب غار رسول الله صلى الله عليه وسلم صرف الله به جميع أعدائه من صناديد قريش بدلالة إبليس إياهم عليه، كذلك أهل المعرفة إذا بلغوا إلى مقام العيان بعد البيان انقطع وصرف وساوس الشيطان وسلطان النفس، وصار كيدهم ضعيفًا، بيانه قوله: {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76] يعني صار عليهم ضعيفًا كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] لأن العبد إذا جاوز بحسن ظنه جميع الحجب، حتى لا يكون بينه وبين الله حجاب، فليس للنفس والشيطان والدنيا دخول على قلبه وفؤاده بالوساوس، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت البارحة عجبًا عبد بينه وبين الله حجاب فجاء حسن ظنه بالله فأدخله الحجاب».
وقوله: وحسن الظن جاوز نور نار كأنه أشار إلى متابعة الرسول شرفًا بتفضيله على الخليل والكليم، لأن الأنبياء والأولياء في مقام رؤية النار والنور على مقامات شتى، فالخليل رأى النار وصارت عليه بردًا وسلامًا، والكليم رأى النار نورًا بيانه قوله: {إني آنَسْتُ نَارًا} [طه: 10] وكان في الأصل نورًا مع قوله: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] يعني موسى في وسط النور فاشتغل بالنور فعاتبه فقال: لا تشتغل بالنور فإني منور النور، بيانه: {إني أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ} [طه: 12] وأما الحبيب صلى الله عليه وسلم فأراه النار والنور، وجاوز حجاب النار والنور، ثم أدناه بلا نار ولا نور، حتى رأى في دنوه الأدنى منوّر الأنوار، بيانه قوله: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} [النجم: 11] فرفع الحبيب عن مقام الخليل والكليم ومقامات جميع الأنبياء المقربين، حتى صار مكلمًا بالله بلا وحي ولا ترجمان أحد، بيانه قوله: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 10] يعني قال الحبيب للحبيب سرًا وعلمه وأكرمه بفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة.
وقوله: علامات المقرب واضحات أراد أن جميع الأنبياء والملائكة لهم قربة، ومحمد صلى الله عليه وسلم أقربهم قربة، على وزن أفعل، يقول قريب وأقرب، فالقريب يدخل في الفهم والوهم والتفسير، وأما الأقرب خارج عن الفهم والوهم والتفسير، وما بعده لا يدخل في العبارة ولا في الإشارة، وذلك أن موسى عليه السلام لما سمع ليلة النار نداء الوحدانية من الحق فقال: إلهي أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فنادى الكليم من مكان القريب والبعيد أنه قريب. ولم يكن هذا في وصف الرسول حينئذ صيره مقربًا، حتى سلم الله عليه فقال: السلام عليكم، وإن الله تعالى مدح أمته فقال: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10- 11] ولم يقل القريبون، وعلامات المقرب واضحات من هذه الأمة، فالقريب وجد من الله المنة والكرامة، والبعيد وجد من الله العذاب والعقوب، والمبعد وجد من الله الحجاب والقطيعة، والمقرب وجد من الله اللقاء والزيارة.
قوله: فمن كان الإله له عيانًا علامات المشتاقين، فليس لهم نوم ولا قرار لا بالليل ولا بالنهار، والمخصوص بهذه الصفة صهيب وبلال، لأن بلالًا كان من المشتاقين، وكذلك صهيب، لم يكن لهما نوم ولا قرار، وقد حكي أن امرأة كانت اشترت صهيبًا فرأته كذلك فقالت: لا أرضى حتى تنام بالليل لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي، فبكى صهيب وقال: إن صهيبًا إذا ذكر النار طار نومه، وإذا ذكر الجنة جاء شوقه، وإذا ذكر الله تعالى طال شوقه.
وقوله: تقاضاه الإله لهم ثلاثًا لأن هل من حروف الاستفهام، وأن الله عزَّ وجلَّ يرفع الحجاب كل ليلة فيقول: «هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داعٍ فأجيب دعوته؟» فإذا كانت ليلة القدر رفع الله الشرط فقال: «غفرت لكم وإن لم تستغفروني، وأعطيتكم وإن لم تسألوني، وأجبت لكم قبل أن تدعوني»، وهذا غاية الكرم.
قوله: متى نجس الولوغ ببحر ود أشار إلى ولوغ الكلب، إذا ولغ في الإناء يغسل سبع مرات أو ثلاثًا، باختلاف الألفاظ الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف ولو أن ألف ألف كلب ولغوا في بحر؟ فلا اختلاف بين الأمة أن البحر لا ينجس بوساوس الشيطان، وولوغه في قلوب العارفين والمحبين في بحر الوداد متى يوجب التنجس، لأنه كلما ولغ فيه جاءه موج فطهره.
وقوله: فدع شقي النباح بباب داري يعني دع يشقى إبليس يصيح على باب الدنيا بألوان الوساوس، فإنه لا يضرني، كقوله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ} [الأعراف: 201] بالوحدانية مع قوله: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46].
قوله: اخسؤوا تباعدوا عني، يقال للكلب اخسأ على كمال البعد والطرد، وبهذا عاقبهم في آخر عقوباته إياهم، كقوله: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. اهـ.